بقلم :إلياس سحّاب
لو عمدنا الى رسم خارطة القضية الفلسطينية في الفترة ما بين تأسيس “إسرائيل” على أرض فلسطين، واللحظة التاريخية الراهنة للقضية (فلسطينياً وعربياً ودولياً)، لو قدر لنا رسم هذه الخارطة، وفقاً لتسلسل أحداثها السياسية، وبلغة الخط البياني، صعوداً وهبوطاً، مع كل تطور سياسي، فسنجد الخط البياني التاريخي للقضية ينحدر حالياً إلى درك لا سابق له في التدهور، درك يصل في انحداره إلى حدود الخطر التاريخي الحقيقي على القضية وشعبها:
ففي مسألة تحديد مساحة الوطن الفلسطيني الموجود بين أيدي سكانه الأصليين من الفلسطينيين، سنجد هذه المساحة تنحدر من 100%، قبل العام ،1948 الى 44% في قرار التقسيم الصادر سنة ،1947 الى 22% فقط في أكثر عروض التسوية السياسية سخاء، منذ مرحلة ما بعد اتفاقيات أوسلو. علماً بأن هذه المساحة كانت (قبل العام 1948) ملكاً خالصاً لشعب فلسطين، رغم وجود الانتداب البريطاني الذي كان يفترض أن يرحل ذات يوم، وقد فعل ذلك فعلاً في العام 1948 (ولكن بعد تسليم الدفة عملياً للقائمين على مشروع إنشاء دولة “إسرائيل”). بينما نجد مساحة 22% من فلسطين، المعروضة حالياً، هي مجرد وعد نظري لا وجود لأي ضمان سياسي او قانوني يستند إليه (سوى قرارات دولية معطلة منذ عشرات السنين)، وتقع تحت نير احتلال يقوم عملياً بقضم ما أمكن من هذه المساحة الجغراقية، وتقطيع أوصالها، وتحويلها إلى جزر صغيرة منعزلة جغرافياً وسكانياً، بعضها عن بعض.
في البعد العربي للقضية. ظلت القضية حتى ما قبل العقدين الأخيرين، من القرن العشرين، تعتبر مسؤولية عربية جماعية، لكن هذه المسؤولية أخذت تتعرض لتآكل سياسي وقانوني متدرج، حتى وجدنا أنفسنا منذ سنوات عديدة أمام الاختفاء النهائي لمفهوم “الصراع العربي الإسرائيلي”، وحلول مفهوم وشعار “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” محله، ووجدنا دولاً عربية محيطة بفلسطين (كمصر والأردن) تخرج نهائياً، من دائرة الصراع، باتفاقات سلام (!!)، وتتحول إلى وسيط بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، في أي نزاع تفصيلي، ودائماً تحت نير الاحتلال “الإسرائيلي” الجاثم على كامل التراب الفلسطيني، والمتحكم بشعبه في أراضي 48 و67 على السواء.
على الصعيد القانوني، تراجعت وتآكلت القيمة التنفيذية لكل قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية (وأبرزها الثلاثة الأولى: ،181 ،194 242)، وفقدت أي قوة دولية أو عربية تمارس ضغوطاً جادة لتنفيذها. وأصبح الاحتلال “الإسرائيلي” لكامل التراب الفلسطيني، واقعاً سياسياً يضغط المجتمع الدولي وقواه الأساسية للحفاظ عليه ورعايته، على أنه رديف لأمن “إسرائيل”، الذي لا يجوز المساس به. كما أصبحت أي مقاومة فلسطينية مشروعة لهذا الاحتلال، تصنف في المحافل الدولية، إرهاباً، مع ميل عربي رسمي إلى تبني هذه المفاهيم الجديدة للصراع، في الساحة الدولية، أو على الأقل، العجز الكامل عن طرح أي مفاهيم بديلة تجسد حقيقة الصراع وأصوله التاريخية والقانونية، وتقف وراءها قوة داعمة، سياسياً ودبلوماسياً على الأقل.
تندرج هذه النقاط كلها، المعروضة أعلاه، تحت عنوان الإطار الدولي والعربي للقضية. فإذا انتقلنا الى الإطار الفلسطيني الأضيق، فلن نجد الأمور في مستوى أحسن، بل إنها تبدو في بعض اللحظات، في مستوى أسوأ، مثل لحظة الصراع الفلسطيني الداخلي المسلح المتفجر في غزة مؤخراً.
نكتفي من هذه اللحظة، لتحديد موقعها على خارطة الخط البياني المنحدر للقضية الفلسطينية، نكتفي بهذه المشاهد:
مشهد نضج الثمار اليانعة للفساد والإفساد الذي ظل يعتبر فلسفة ذكية في ممارسات قيادات المقاومة الفلسطينية، منذ نشأتها، كوسيلة عبقرية لإمساك القيادة بكل الخيوط. وهذه الثمار لا بد أن تكون قد وصلت إلى ذروة نضجها، بعد اتفاقات أوسلو، وخضوع الوضع الفلسطيني للسيطرة المباشرة للاحتلال “الإسرائيلي”: سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، إلى حد يمكن “إسرائيل” من زرع خيوط لها، وسط نسيج الغابة الفوضوية للأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية.
مشهد حصار جوي وبحري وبري “إسرائيلي” يضغط على أنفاس الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، محاطاً بحصار ضاغط آخر، اقتصادي وتمويني، تشارك فيه قوى المجتمع الدولي، وتعجز الأنظمة العربية عن القيام بأي حركة علنية لكسره.
إعلان “إسرائيل”، أمام شهود الاقتتال الفلسطيني أنها لا تتدخل، فهذا شأن فلسطيني داخلي. وماذا تريد “إسرائيل” أفضل من هذا الوضع، بعد أن عجزت مطولاً عن فرض إسناد مهمة تصفية قوى المقاومة الفلسطينية مباشرة للسلطة الفلسطينية، وبقرار رسمي منها، شرطاً لاعتمادها “شريكاً” في خطوات متقدمة للمفاوضات.
مع ذلك، وبرغم ذلك، تقوم طائرات “إسرائيلية” مقاتلة وسط الاقتتال الفلسطيني، بقصف مواقع حساسة لحركة حماس موقعة عشرات القتلى والجرحى، وتصرح في الوقت نفسه، بأنها تدعم السلطة الفلسطينية. وهي في الحقيقة لا تدعم أحداً، سوى سلطة الاحتلال، وتقوية فرص استمراره، بزيادة فرص اشتداد الاقتتال الفلسطيني، عن طريق إثارة المزيد من الشكوك والريب.
لو وضعنا كل هذه المشاهد، الدولية والعربية والفلسطينية، في إطار واحد، لرأينا أن الأمر لا يستدعي عبقرية في التحليل، أو بحثاً عن خيوط “الخطط” في كواليس القرار الدولي. إنها عملية تصفية متدرجة صريحة للقضية الفلسطينية، ولكنها عملية بآليات متنوعة، تتحرك من الداخل والخارج، بقوة ضغط هائلة ومتعددة المصادر، بحيث لا تؤدي فقط إلى تفكيك الأواصر السياسية والجغرافية للقضية، بل تضع شعب القضية نفسه تحت ضغوط هائلة تؤدي إلى ضمان منح عملية التصفية (إذا اكتملت) صفة الاستمرار والدوام، بدل أن تكون تصفية مؤقتة، تطيح بها صحوة عربية وفلسطينية، تعيد الصراع إلى جذوره التاريخية.