:
020:
أما بعد:
فإنَّ الوصية المطروقة لي ولكم - عبادَ الله - هي الحثُّ على لزوم تقوى الله – سبحانه - في المنشط والمكره، والعُسر واليُسر، فتقوى الله خير زاد؛ إذ ما خاب من اتَّقاه، ولا أفلح من قلاه.
إِلَيْكَ وَجَّهْتُ يَا مَوْلاَيَ آمَالِي فَاسْمَعْ دُعَائِيَ وَارْحَمْ ضَعْفَ حَالِي
وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى مَنْ لَيْسَ يَكْلَؤُنِي وَكُنْ لِي فَأَنْتَ الْوَاحِدُ الْمُتَعَالِي
اللهم لا يَخفى عليك ما في ضمائرنا، وتعلم مبلغ بصائرنا، أسرارنا لك مَكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، اللهم فاغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنَّا، وأعنِّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
أيُّها الناس:
ساعات معدودة من ساعات الزَّمن، ثم يلوح في السماء، وينبلج في الأفق، وينبثق في الكون هلالُ ذي الحجة الوليد لذلك التَّوِّ، يلوح الهلالُ في السماء؛ ليعلمَ المسلمون في المشارق والمغارب أنَّ ربَّهم - سبحانه - قد آذنهم بموسم خيرٍ، له في مُجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي هِمَمِهم إيقاظٌ وتنبيه، وليوقنوا أنَّ فضل الله متواصل، وخيره مديد لا ينقطع، ولربكم - جلَّ شأنه - نفحات فتعرَّضوا لها؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((افعلوا الخير دهركم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها مَن يشاء من عباده))؛ رواه الطبراني في "الكبير"، وصححه الألباني، شهر تتقلب فيه أُمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - على موائد كرم ربِّها، تستمتع بليلها ونهارها في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - وأبلغ ما يقال في أيام هذا الشهر ولياليه أنَّ الله - تعالى - يطلعنا على بعض مظاهر عفوه وسعة رحمته.
شهر ذي الحجة من الأشهر الأربعة الحرم، الوارد ذكرها والمبيَّن فضلها في قول الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وهو آخر شهور السنة الهجرية، وآخر شهور الحج الثَّلاثة؛ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وأحد مواسم الخير المتجددة في حياة المسلم، لا سيما أيامُه العشر الأولى؛ قال الله - تعالى -: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]؛ قال ابن كثير - رحمه الله -: "المراد بها عشر ذي الحجة".
وقال - عزَّ وجلَّ -: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]؛ قال ابن عباس: "أيام العشر"، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر))، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد؛ إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء))، وكان سعيد بن جبير - وهو الذي روى حديثَ ابن عباس السابق – "إذا دخلتِ العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه"؛ رواه الدارمي بإسناد حسن، ورُوي عنه أنَّه قال: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر"؛ كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح: "والذي يظهر أنَّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصَّدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره"، وقال ابن رجب - رحمه الله - في لطائف المعارف: "لما كان الله – سبحانه - قد وضع في نُفُوس عباده المؤمنين حنينًا إلى مُشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كلَّ عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسمَ العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين"، فيا لها من فُرصة يزدلف فيها العبد إلى رحمة مولاه!
في ذي الحجة يقع ركنٌ من أركانِ الدِّين بنيت عليه الملَّة، وتعارف على وجوبِه أهلُ القبلة، ركن الإسلام الخامس: الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 97]، يكفيك شرفًا وفضلاً يا قاصد بيت الله، أنْ يعمك مثل قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحُجَّاج والعُمَّار وفدُ الله دَعاهم، فأجابوه، وسألوه فأعطاهم))؛ رواه البزار.
وليس ذلك فحسب، بل أبشرْ أيُّها الحاج بإقالة العثرة ومغفرة الزَّلَّة، روى الطبراني والبزار بسند رجاله ثقات عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال للثقفي الذي جاء يسأل عن الحج: ((فإنك إن خرجت تَؤُمُّ البيتَ الحرام لا تضع ناقتك خُفًّا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومَحَا عنك خطيئة، وأمَّا ركعتاك بعد الطَّواف كعتق رقبة من بني إسماعيل - عليه السَّلام - وأمَّا طوافك بالصَّفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأمَّا وقوفك عشية عرفة، فإنَّ الله يَهبط إلى سماء الدُّنيا، فيباهي بكم الملائكة، ويقول: عبادي جاؤوني شُعثًا من كل فجٍّ عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبهم كعددِ الرَّمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر، لَغَفَرتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم فيهم، وأمَّا رميك الجمارَ، فلك بكل حصاة رَميتها تكفير كبيرة، وأما نحرك فمدخور لك عند ربِّك، وأما حلاقتك شعرك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويُمحَى عنك بها خطيئة، وأمَّا طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنبَ لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك، فيقول: اعمل فيما تستقبل، فقد غفر لك فيما مضى)).
ولما جاء عمرو بن العاص يُبايع على الإسلام أراد أن يشترطَ المغفرة لذنوبه، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أما علمت يا عمرو أنَّ الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحجَّ يهدم ما كان قبله؟))، ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيومِ ولدته أمُّه))، ((وأفضل الجهاد حج مبرور))، بهذا كله صحَّ الخبر عن سيد البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم.
إنَّها رحلة الإيمان إلى رحاب الملك العلام، قال ابن جماعة: "الحج حرفان، حاء وجيم، فالحاء حكم الحق، والجيم جرم الخلق، فكأنَّ الإشارة إلى أن الحق -جل جلاله - يغفر للحُجَّاج أنواعَ جرمهم"، قال الشعبي: "إنَّما جعل الله هذه المناسك ليكفر بها خطايا بني آدم"، قال بهيم العجلي: "تذكرت بهذه الرحلة الرحلة إلى الله"، وقال الجنيد: "الخلق في سبق إلى الله، فلتكن أول سابق إليه"، لسان حالك يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، قال ابن الجوزي: "أُمِرَ المحرمون بالتعري؛ ليدخلوا بزي الفُقراء، فيتبين أثر قوله - تعالى -: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 37]"، وقال الغزَّالي: "وأمَّا بشراء ثوبَيْ الإحرام، فيتذكر عنده الكفن ولفَّهُ فيه".
إنَّ المرء حينما يشاهد جموعَ الحجيج تَفِدُ إلى أمِّ القرى ملبِّين لَيَعْجَبُ من حالِ جمعٍ من بني الإسلام أخذهم التسويف، وأقعدهم الشيطان، وألهتهم الأماني، فبلغوا الرُّشد، واستطاعوا الحج مالاً وبدنًا، ثم هم يؤجِّلُون الحجَّ، ويسوِّفُون فيه بأعذار واهية، فتارة يعتذرون بشدة الحر، ومرة بكثرة الزحام، وهل عُرف عن الحج عكس هذا؟! ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول فيما رواه أحمد: ((تعجلوا إلى الله بالحج، فإنَّ أحدَكم لا يدري ما يعرض له))، وعن عبدالرحمن بن سابط يرفعه: ((من مات ولم يَحج حجة الإسلام، لم يَمنعه مرض حابس، أو سُلطان جائر، أو حاجة ظاهرة، فليمُتْ على أي حال يهوديًّا أو نصرانيًّا)).
فتحيَّنِ الحجَّ في رغبةٍ وشوق للسير إلى الله؛ لأنَّ الحجَّ فرصة للوفادة عليه، واقتدر باقتدارِ القادر؛ ليحملك ويبلغك، وبالقرار عجِّل؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((استمتعوا من هذا البيت، فإنَّه هُدم مرَّتين ويُرفع في الثالثة))؛ رواه ابن خزيمة وصححه الألباني، ولا يقعدنك الشيطان، ولا يأخذنك التسويف، ولا تلهينك الأماني، ويا لَلعجب من أولئك المسوِّفين! أَوَلاَ تحرك هذه الأخبار والآثار من هممهم الفاترة؟! وإنَّك لَتَعْجَب تارة أخرى بعد مُقارنة هذا الحال بحالِ السَّلف الصالح ممن حرصوا على متابعة الحج؛ يقول نافع مولى عمر: سافرت معه بضعًا وثلاثين حجةً وعمرة، وروى سليمان بن أيوب قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفًا.
وإذا خرجت إلى بيت الله حاجًّا ملبيًا، فلتحرص يا عبدَ الله على أن يكون زادك حلالاً؛ لأنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فالمستخبث من المحصول مَمحوق البَركة عديم النَّفع، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه، وضَعَّفه الألباني مرفوعًا: ((إذا خرج الحاجُّ بنفقة طيبة، ووضع رجله، فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، ونادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادُك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور)).
وقد أهلَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على رَحْلٍ رثٍّ، وقطيفة خَلِقة لا تساوي أربعةَ دراهم، ثم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم حجة لا رياءَ فيها ولا سُمعة))، فأطب مطعمَك، وأحسن زادك، وتحرَّ الحلال الطيب زادًا وراحلةً.
إذَا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ فَمَا حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ الْعِيرُ
لاَ يَقْبَلِ اللَّهُ إِلاَّ كُلَّ طَيِّبَةٍ مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَأْجُورُ
الحجُّ - يا عباد الله - مدرسة مُتكاملة في جميع جوانب الحياة وشؤونها، تعطينا دروسًا في الانضباط والانقياد والطَّواعية لأوامر الله، فليتنا نأخذُ منها عبرة لحياتنا اليومية، إنَّك لتعجب ممن يسأل حال إحرامه عن شعرة سقطت منه دونما قصد، ثم هو ممن يَعتدي على شعر لحيته حلقًا وتقصيرًا على الدَّوام، وهذا آخر يَحرص على الكيفيَّة الصحيحة للباس الإحرام ومُراعاة السنة فيه، وإنك لتراه من مسبلي الثِّياب فخرًا وخيلاء، وهو يسمع قولَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار، فهو في النار))!
موسم الحج ومجتمع المسلمين الأكبر فرصة سانحة في بثِّ مشاعر العطف، وخلق التراحُم، وصور الأُخوَّة بين المسلمين، وكم يَحزن الإنسان حينما يقابل جهلاً من الحجاج بهذه الأخلاق الإسلامية الرفيعة، والسمات البارزة، وتبدو مظاهرها مجلاَّةً في التدافع والتزاحم في غير ما موضع ومنسك.
أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ فِي ظِلِّ الْحَرَمْ وَدُمُوعِي كُلُّهَا فِي الْمُلْتَزَمْ
أَنَا ذَاكَ الْعَبْدُ مِنْ أَخْطَائِهِ فِي سِجِلٍّ خَطَّهُ ذَاكَ الْقَلَمْ
إِنْ يَكُنْ يَا رَبِّ عَتْبٌ ظَاهِرٌ فَاعْفُ عَنْ أَخْطَائِنَا يَا ذَا الْكَرَمْ
عباد الله:
لما كان المسلمون يسلكون إلى البيت الحرام كلَّ فَجٍّ؛ قصدَ الحج والزِّيارة، كان كل قاصد للبيت بحاجة إلى هذا التَّذكير الدَّال على شرف المكان وعظيم حقه، وما ينبغي له من الحرمة؛ لأنَّ تحريمَ البيت موجودٌ مذ خلق الله السموات والأرض، وليس من عادات الناس، وقد أمن في الحرم الناس والحيوان والشجر والطير، فهو حِمًى مصون.
فلا بُدَّ من تعظيم البيت والحِرْص على شهود الخير فيه من طوافٍ وصلاةٍ وذكرٍ، ومن العجيب أنَّ بعض من جاور قد يستخف؛ بسببِ طول العهد والإلف، ويتذرع بعضُ الأخيار بقول جماعة من العلماء أنَّ مكة كلها حرم، فيصلي في بيته تاركًا الأجر الرَّاجح للقول المرجوح، ولو سلَّمنا جدلاً بهذا الأمر، وعمل به ناسٌ، فأين هم من فضل الجماعة الكثيرة العدد، ومن فضل الطَّواف، ولمس ركنه وتقبيل حجره، وتمتيع العينين بالنظر إليه؟!
مكة حرم الله المعظم وبيته المقدس، ومَن دَخَله كان آمنًا، أوجب الله حجه، وألزم الناس قصده، ورزقهم حبه، فالحذر الحذرَ من المعاصي والمنكرات في رحاب بيت الله، فكما أن الحسنات تضاعف، فكذلك السيئات تعظم؛ قال الله - تعالى -: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: يَهُمُّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار".
وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه البخاري: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة - وذكر منهم - ملحد في الحرم))، قال الحافظ في الفتح: "وظاهر سياق الحديث أنَّ فعل الصَّغيرة في الحرم أشدُّ من فعل الكبيرة في غيره"، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا قال: ((لو أن رجلاً همَّ فيه بإلحاد، وهو بِعَدَنِ أَبْيَنَ، لأذاقه الله عذابًا أليمًا))؛ {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، هذا فيمن همَّ، فكيف بمن عمل؟
فاحرصوا يا عباد الله على تعظيم المشاعر والشَّعائر، فإن الله - جل شأنه - يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وكان النُسَّاك من العلماء يعجِّلُون العود إلى مساكنهم؛ خوف زَلاَّت أيديهم وألسنتهم وأرجلهم، وكان ابن عباس قد خرج من مكة وسكن الطائف، وقال: "لي بقايا حسنات، أخشى أن تذهبها حُرمة هذه البنية"، فينبغي لمن شرَّفه الله بالجوار أنْ يُحسن جوار هذه الدَّار، والحذرَ الحذر من الظلم بها، فمَنْ هَمَّ بسيئة قصمه الله.
ولنا في هذا المشهد المتكرِّر عبرة، ففي كلِّ عام نشهد الألوفَ المؤلفة مُقبلة بركابِها تنيخ حمالها في ساحة البيت العتيق، فكم من قلوب تَحِنُّ وتَئِنُّ إلى البلد الحرام، فارقوا الأقطارَ وقطعوا الفيافي والقفار لبلوغ رحابه، فكم من أموالٍ بُذلت، وكم من نفوسٍ أُتعبت، وكم من أهلين وأولاد تُركوا، الإسلام هو الداعي، والإيمان هو الحادي، والبقاع الطاهرة هي المبتغى والمقصد، بلغهم الله بيته، فذاقوا وارتشفوا، وعرفوا واغترفوا، مهما تردَّدوا فلا يبغون عنه حولاً، ومهما دنوا فلا يقضون منه وطرًا، إذا ذكروا بيت الله حنُّوا، وإذا تذكروا بُعدهم أنُّوا.
أمَّا من أقعده المرض أو قصرت به النفقة، فهو يؤمُّه بقلبه في كل حين وآن، ويولِّي إليه وجهه أينما كان، لم يكتب له بلوغ البيت، لكن قلبه مَوصول بربِّ البيت، عاقته المعاذير ولم تُسعفه المقادير، كلما أذَّن مُؤذن الحج، ونادى منادي زيارةِ البيت، تَوَلَّوْا وأعينهم تفيض من الدَّمع، فزفروا زفرات الأسف، وأراقوا دموع اللهف، حنينُ أفئدتِهم لا ينقطع، ومُنى نفوسهم لا ينقضي.
وبعد، فشرف هذه البقاع الطَّاهرة ليس بالذي يستوعب، وحَسْبُ الرَّاغب - بل حسب المحب الواله - الإلماع دون الإشباع، والإشارة حين لا تسعف العبارة، وحسبنا في ذلك قول الحق - سبحانه -: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97].
:
021: