عبد الله أيت الحاكم
مقدمة
الحمد لله الذي نزل الكتاب على عبده، وخصه بالحفظ تفضلا من عنده، فقال سبحانه:[ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر:9). والصلاة والسلام على من جعل الله قلبه الشريف مُتَنَزَّل كلامِه، ومهبطَ تاج الخطاب ومسكِ ختامه. [فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] (البقرة:97). وعلى المخصصين بالوصية مع القرآن، والمشرفين بالتحية على مر الأزمان فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا :كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي" رواه الترمذي رحمه الله وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وعلى من تخلقوا بأخلاق الكتاب، ونزل فيه الرضا عليهم من غير ارتياب.[لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] (الفتح:1Cool. وعلى من بعدهم من التابعين لهم بإحسان، أوعية النور المبين، وحملة الرسالة للعالمين إلى يوم الدين.[ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ] (العنكبوت:49).
وبعد، فإن من دلائل ضعف الإنسان وافتقاره لخالقه ومولاه، وقوفه عاجزا أمام عَدّ نعم الله وإحصائها، وذهوله لتوافرها وتواليها. هذا إن ظهرت بعد بسط الأيادي بالدعاء، والإلحاح في الرغبة والالتجاء، وخصوصا مع عدم الاستحقاق بمقارفة الآثام ودوام الاجتراء. أما وأن تُرسَل الرحمات قبل الطلب والسؤال، ودون أن تخطر على البال أو تطوف بالخيال، بل بسابق العطاء والإحسان، وأولية الطول والامتنان، فهذا ما يرمي اللسان الفصيح بالعَيّ، ويُدخل الجَنان الكسيح من باب "أبوء بنعمتك عليّ".
ثم هب أنك تستطيع العدّ والإحصاء، فهل تستطيع الشكر والوفاء ؟ ولنفرض أن شخصا تسلَّق جدار الاستعلاء، وجاهر بهذا الزعم والادعاء. لا جرم ينقضُّ عليه جداره بما كسبت يداه، ويضيع كنزه بتكبره على مولاه، وكفره بفضله عليه ونعماه. ذلك أنه لم يتسربل بلباس "اليتم"، ولم يخرج من صلب "الصلاح"، فلما جمع بين منبت السوء وظن السوء، جمع الله له خزي الدنيا بسلب النعمة، وخزي الآخرة بظهور النقمة.
نعم الله عليك كنز مدفون. إن قابلته بدوام الافتقار وصحبة الأبرار أخرجته غير مغبون. وإن قابلته ب"إنما أوتيته على علم عندي" و"قد أفلح اليوم من استعلى" فاعلم أن لربك طائفا طاف على جنة قوم وهم نائمون.
فنحمد الله على النعمة العظمى والمنة الكبرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مستودع المواهب الإلهية، ومستقر الرحمة الربانية، الشاهد البشير، والداعي النذير، والسراج المنير الهادي إلى صراط مستقيم [لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164). ونحمد الله على أن جعلنا من أمته، واصطفانا لتفَيُّء ظلال منهاجه وشريعته. الأمة التي أثنى عليها بارئها بقرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار فقال: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ](آل عمران: 110). الأمة التي خصَّها الله عن غيرها من الأمم ببركة إمامها، وجعل الشهادة على الناس يوم العرض الأكبر خير وسامها.[ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً](البقرة: 143).
وقد عَدَّ الإمام السيوطي رحمه الله في كتابه "الخصائص الكبرى" جملةً مما خص الله به هذه الأمة دنيا وأخرى من النعم والفضائل. ونحن في هذه الورقات نُفْرد الحديث عن إحداها، بل ومن أشرفها وأعظمها لتعلقها بوحي الله تعالى إلى عباده، وخطابه الدال على حكمته سبحانه من خلقهم ومراده؛ هذه الخصيصة هي (حفظ القرآن). قال الإمام القرطبي رحمه الله في "تفسيره": (قال الحسن : أُعطيت هذه الأمة الحفظ، وكان من قبلها لا يقرؤون كتابهم إلا نظرا، فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيون. فقال كعب في صفة هذه الأمة: إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء). وقال الإمام المناوي رحمه الله في "فيض القدير": (وقال قتادة : أعطى الله هذه الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم قبلها خاصة خصهم الله بها وكرامة أكرمهم الله بها).
فقد لوحظ إهمال المسلمين لهذه الفضيلة مع تشريفهم بها دون غيرهم، في الوقت الذي صرفوا فيه اهتمامهم إلى تزيين المصاحف وتحسين الأصوات والتعمق في دراسة علوم القراءات. كل هذا جميل إن صلح العمل، لكنه لا يقارب فضيلة الحفظ من حيث الرقي الإيماني والجزاء الأخروي، رجوعا إلى ما ورد من نصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة كما سنرى إن شاء الله. ولا شك أن كثيرا من أهل الخير أفرادا ومؤسسات على طول العالم الإسلامي وعرضه، يبذلون جهودا مشكورة في هذا المجال، ويضعون البرامج وينظمون المسابقات الإقليمية والدولية، ويشجعون الحفاظ صغارا وكبارا، نساء ورجالا، عربا وأعاجم، بجوائز معنوية ومادية. لكن المطلوب تعميم هذا الخير على أوسع نطاق، حتى يتولد داخل كل مسلم التوقان إلى حفظ كتاب ربه، والتلهف إلى حمله نورا وهداية، وحتى يصير لدى المؤمن همًّا قائما حين يصبح وحين يمسي، فيجعله من ضمن أوراده في يومه وليله، بل وأولاها بالرعاية والتثبيت.
إلا أن هذا المطلب لابد له من توطئة تمهد له أسباب الحصول، خصوصا وقد غفل الكثير من المسلمين عن فضائل الأعمال بما افتتنوا به من علائق الأشغال وعوائق الأغلال. فكان من اللازم إحياء بواعث هذا العمل العظيم وتوضيح معانيه ووسائله، لتتجدد لدى أمة القرآن الصلة بكتابها حفظا وعملا. والطريق إلى ذلك لابد وأن يتخذ من الأشكال والأساليب ما يساير تطور وسائل التواصل والإعلام، وأن يجد قبل ذلك من همم محبي القرآن ما يمنع الملل والسآمة أن يقفا دون نشر هذا الخير والدعوة إليه في كل ناد ومحفل.
وقد آليت على نفسي أن يكون لي في هذا البعث نصيب، وأن أزاحم بمنكبي أهل هذا الفن، حتى أظفر من الجزاء بما وعد به الرسول الكريم مَنْ دعا إلى خير أو سنَّ، فإن لم يكن ذاك فلا أقل من بركة المزاحمة وسعادة المجالسة الثابتة لمن مَنَّ الله عليه وحنَّ، فجمعه بذلك الـ "مَنْ" المذكورِ في سورة (لقمان) من غير كتمان ولا ضَنّ.
لهذا وذاك سبرت أغوار بعض كتب الحديث والسنة وسير الصالحين من أهل القرآن، وجمعت نصوصا في هذا الميدان، لأقدمها بين يدي حملة القرآن تهنئةً وبشرى، وللسائرين في الطريق حُداء وذكرى، وللمتكاسلين باعثا وعبرة. وكلُّ منيتي ورجائي القبول من الله البارئ، والرضا من عزيزي القارئ. وسميته: الباعث للإخوان على حفظ القرآن. جعلنا الله من إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم آمين.
ونختم هذه المقدمة بنصين جميلين يظهر فيهما فضل الله على هذه الأمة بما خصها به من حفظ القرآن وغيره :
- قال الإمام الطبري رحمه الله في "التفسير": (وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه فاشتد ذلك عليه. ذِكْرُ من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله: أخذ الألواح قال: رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون، أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها. (وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا، ولم يعرفوه. قال قتادة : وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم). قال: رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ثم يؤجرون عليها. (وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليهم نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت تأكلها الطير والسباع. قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم). قال: رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة. رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. قال فأعطي نبي الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبي. قال الله: [يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي]. قال: فرضي نبي الله. ثم أعطي الثانية : [ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون] قال: فرضي نبي الله كل الرضا).
- قال الحكيم الترمذي رحمه الله في "نوادر الأصول في أحاديث الرسول" الأصل67 : (ويوم الوفادة حيث اختار موسى عليه السلام سبعين رجلا لميقات الله تعالى، فلما صاروا إلى الجبل أعطاهم الله تعالى ثلاث خصال فيما روي في الخبر. فقال: أعطيكم الحفظ لتقرؤها عن قلوبكم. فقالوا: إنا نحب أن نقرأ التوراة نظرا. فقال: ذلك لأمة أحمد صلى الله عليه وسلم. قال: وأعطيكم السكينة في قلوبكم. فقالوا: لا نقدر على حملها فاجعلها لنا في تابوت فكلمنا منها إذا احتجنا. قال: فذلك لأمة أحمد. قال: وأعطيكم أن تصلوا من الأرض حيث أدركتم. قالوا: لا نحب أن يكون ذلك إلا في كنائسنا. قال: فذلك لأمة أحمد. فكان نوف البكالي إذا حدث بهذا الحديث قال: احمدوا ربكم الذي شهد غيبتكم وأخذ بحظكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم، فجعل الله السكينة في قلوب المؤمنين، وجعل لهم الأرض مسجدا وطهورا، وقرن الحفظ بالعقول منهم ليقرءوا عن قلوبهم)