الإبريز في سرقة باريز
ذ. أحمد العبدلاوي
لعبد ربه الضعيف، الفقير إلى الله دوماً، الماثل أمامكم، اختراقات إلى عوالم سفلية وعلوية، ومروقات إلى أخرى غير ذات جهة. وله في كل منها مشاهدات ومنازلات تحسر لغة الدنيا عن وصفها. وما سأحكيه لكم كرامة عجيبة قد لا تطيقها عقولكم. فوسعوا صدوركم، عافاكم.
عندما حططت الرحال في باريز، آتياً رأساً من بادية غمارة في ليلة كدر ونوم ثقيل، وفي رأسي ما فيها حول عراقتها وجمالها، رحت أجوبها دون خطة مسبقة، مستغربا من سماءها الواطئة، متفرجا على مكامن جمالها، ومتعرّفا على ناسها بعفوية، مدردشا معهم فوق أرصفة المقاهي أو على قنطرة السين، دون عجلة مني ولا حرص على زيارة المعالم والآثار التي إذا لم يزرها الزائر ولم يلتقط لنفسه فيها صورا فوتوغرافية، قُلّل من شأنه ومن شأن زيارته. وبينا أنا على تلك الحال، استرعى انتباهي ذات يوم، بناء بهيّ. تحريت عنه فقيل لي إنه كاتدرائية نوتردام. اخترت مساء يوم متفتّق الأزهار لأستمتع بجمالها، لكني تضايقت من كثرة الوافدين. وازددت تضايقا بما رأيتهم يقترفون داخلها. كان السياح يتقاطرون عليها كأسراب النحل ليتفرجوا بعيونهم البلهاء في خشوع مصطنع، على تزاويقها وحناياها؛ في حين كانت ثلة أخرى تتعبّد. لكنهم كانوا، ويا لصدمتي، يتمسّحون بالصلبان والتماثيل، عوض أن يعبدوا الواحد الأحد. لا أنكر أني رأيت من قلة الحياء في شوارع باريز ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، لكني كنت أستغفر الله وأدعو للجميع بالهداية، وأسأله تعالى أن يقطع دابر الشياطين؛ لكن قلبي تقطع هذه المرة لأجل ما رأيت. ثم إن الكاتدرائية، وهذا سر لطيف لا يخفى على العارفين، همست لي قائلة عندما اختليت بركن من أركانها: "أغثني يا عبد الله". قررت ألا أبقى مكتوف اليدين، وأن أبادر بفعل لو كتب بالإبر على آماق البصر إلخ..
أياماً معدودة بعد ذلك، سطعت في بالي فكرة فذة وأنا أقرأ "يوميات سارق" لكاتب اسمه جان جينيه. قررت أن أفعل مثلما فعل ذلك الفتى الأخرق مع مجتمعه. دبّرت الأمر مدة أسبوع. ترددت على المكان لأراقب كل التفاصيل، متصنّعاً التفرّج البريء، ثانياً عطفي أمام الجميع، باشّاً في وجوههم حتى لا يشكّوا فيما أبيّته لهم. وفي يوم الأحد كذا من شهر كذا من سنة كذا ميلادية الموافق لـكذا من شهر كذا من سنة كذا هجرية، على الساعة كذا ظهراً، والناس يتقلّون في الشمس في انتظار ساعة الزيارة، جئت أتسكع خلف الكاتدرائية مغافلا العيون، حتى إذا ما سنحت لي الفرصة، قلت لها: "أيتها الكاتدرائية، لقد آن الأوان، فبسم الله مجراك ومرساك". زعزهتها بحركة قوية واثقة ورفعتها فوق ظهري وأطلقت ساقي للريح. لا أدري كم دامت لحظة الدهشة، وكم من آدمي صرع، لكن الأكيد أن الناس ما فتئوا أن طاروا ورائي. سمعت تهارجهم وأنا أثب فوق نهر السين وأستعرض بطاح فرنسا منشداً قول عنترة:
فعولن مفاعيل مفاعيل مفاعيل فعولن مفاعيل مفاعيل يا عبلُ
علمت فيما بعد وأنا أفطر بيضا مقليا بزيت الزيتون وكأس شاي منعنع في أحد مقاهي "النوِينوِيش"، وأطالع جريدة لوكانار أونشيني، أن أول من لاحقني في تلك الحادثة العجيبة هم السياح الذين جاءوا من أماكن بعيدة ليأخذو صورا تذكارية مع الكاتدرائية، فهالهم أن يروها تُسحب من بين أيديهم، وما لبثوا أن طاروا ورائي لاستعادتها، وأطرَت الجريدة بشكل خاص على السياح اليابانيين لأنهم كانوا الأسرع بامتياز وقادوا قافلة المطاردة في كل أطوارها وحصلوا على صور لنوتردام في أوضاع لم تكن لتخطر على بال نصراني؛ أما أولئك الذين جاءوا للعبادة أو للاعتراف، فقد هالهم أيضاً، أن يروا الكاتدرائية العتيدة التي صمدت قرونا في وجه الشيطان وأقرانه، تُقتلع من جذورها ويُهرَبُ لهم بها؛ وما ظنوني إلا بعلزبول* بلحمه وزغبه على ذنبه.
ولكن أعداداً هائلةً من البشر التحقت بهم أثناء المطاردة، وأنا أعدو لا ألوي على شيء، أقطع الوديان والهضاب نحو البحر الأبيض، وعقباي يضربان قفاي، منشدا بأعلى صوتي قول عنترة:
فعلها فعلا فعولن مفاعيل فعلها أخوك الهزبر يَا عَبْلُ
وقبل أن تنتهي المطاردة بالطريقة التي انتهت بها، كان الحشد قد انقسم إلى مجموعات كثيرة، كلٌّ يترنّم بشعاراته، على أنهم كانوا متفقين جميعا على الدعاء لي بالويل والثبور. انقسموا إلى يسار ويمين وإلى ماركسيين لينينيين، ونازيين وفاشستيين، ولائكيين، وديموقراطيين وخضر ومدافعين عن حقوق الحيوان، وفضوليين، ونسويين، ولوطيين، وفنّانين، إلخ.، بل كان من بينهم ثلة من بني جلدتنا أبلوا بلاء حسنا في التشنيع بي والدعاء لي بعظائم الأمور. وكان أسوأهم اللوبينيون الذين رددوا شعارات عنصرية لا لبس فيها، وهددوا بسحق عظامي دون محاكمة، حتى لا أعود لسرقة ولو كشك صحف من باريز. أما تلك الممثلة الرقيقة الحاشية، بريجيت باردو، فعندما علمت بما حدث، امتقع وجهها، وتمتمت: "أوه، مون ديُو، هؤلاء السرازان من جديد!!"، ودُهْشِرتْ.
"عزيزتي الكاتدرائية، أكتب لك من أرض غمارة المباركة لأسلم عليك وأطمئن على صحتك. أود أن أخبرك بأنني كنت معوّلا على الإبحار بك إلى أرض "مرّوكش" الواسعة -زادها الله سعة-، وإيداعك في مكان سحيق، مثل أرفود أو قلعة سراغنة، أو ما هو أوغل منها وأوعر، كي يقطع الفرنسيس إياسهم منك، وكي تُنذري لعبادة الواحد الأحد. لكني عندما أشرفت على البحر، وقعت في حيرة. خشيت أن نغرق. لم يكن لدي وقت كثير للتفكير، إذ كان كل من له ذرة غيرة على الثورة الفرنسية ومبادئ الجمهورية من مساواة وإخاء وحرية، في طريقه إليّ، في القطارات والسيارات والطائرات النفاثة والدراجات وركضا على الأقدام. أشكرك على ثقتك بي، إذ استغثت بي من دون الأنام. لربما كان لنا موعد آخر في يوم من الأيام، من يدري؟".
حططت الكاتدرائية على الشاطئ مترددا. همست لي بحزن: "أشكرك على كل حال". قلت لها: "انتظري فأنا لم أنته بعد" ثم تمتمت معزيا النفس: "اللهم العمش ولا العمى"، وعمدت إلى تماثيلها وصلبانها، وأيقوناتها وعذراواتها، أطوح بها يمينا ويسارا، إلى أن سمعت صراخ الناس حوالي، فقذفت بنفسي إلى الماء، منشدا قول الشاعر لا فض فوه:
مكرّ مفرّ سلوقيّ دلفين معـا كعفريت جنّ حطه السيل من عل
حكت نوتردام وبكت وصاحت فوق كل الأصوات: "الوداع يا حفيد صلاح الدين".
لك هي مغامرتي في باريز، صغتها بلسان عربي مبين، وبخفة ظل. لكن قبل الختام، لا بد من أن أشير إلى أن مجاذيب بلدةٍ جنوبَ مروكش أكدوا أنهم يصلّون الجمعة في مسجد عظيم نزل من السماء؛ في حين أن سياح باريز ما زالوا يأخذون الصور التذكارية عند أقدام الكاتدرائية فوق نهر السين؛ ولكم أن تطّلعوا على الجرائد الفرنسية الصادرة يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ميلادية الموافق لـكذا من شهر كذا من سنة كذا هجرية، فما فوق، لتقفوا فيها على إشارات خفية.
أما سؤالكم عن سبب نزولي من الجبل إلى طنجة، لأجلس هنا فوق سطيحة دار البارود، مديما النظر إلى القارة الأخرى، فإن قلبي، على شيء في طليطلة، على مسجد حزين، غريب بين الكنائس، هجره أهله منذ مئات السنين، وما زال نحيبه يقطع كبد السماء إلى اليوم.