الصحابة.. والمسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: انبعث نور الإسلام على الجزيرة العربية بعد ظلام وتيه، يحمل هذا النور محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومشى خلفه أناس عظماء امتلأت قلوبهم بحب رب الناس فلم يفكروا في غضب الناس، وانطلقوا مع نبي الهدى يشيدون المكان الذي يتزودون فيه من نور الله، ويلتقون فيه بحبيبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يذكرون فيه الله، وينهلون منه العلم، فتستريح فيه أفئدتهم، وتميل إليه أرواحهم، وتهدأ إليه نفوسهم، وتنسجم معه طباعهم، فهو المنزل، وهو المستشفى، وهو المعهد، وهو الجامعة، وهو الملجأ من الهموم والغموم، وهو الطريق الموصل إلى الله، وهو المخرج من الفتن، والواقي من المحن، فيه التبسم للإخوان، والمداعبة والسلوان، يصل المسافر من سفره فلا يحط رحله، ولا يقابل أهله؛ حتى يعانق أرضه بجبهته، متجهاً فيه إلى ربه - عز وجل -.
الصحابة والمسجد: مواقف وأحداث، قصص وروايات، أخبار وأسرار، دروس وعبر، معانٍ وصور.
بناء المسجد:
يستقر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة؛ فيجعل من أولى أولوياته بناء المسجد، فيقوم يحمل الحجر ويبني - بأبي هو وأمي -، والصحابة يقتدون به، جاء عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: "بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده؛ فقُرِّب اللبِن وما يحتاجون إليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم، وجعلوا يرتجزون ويعملون، ويقولون:
لئن قعدنا والنبي يعمل ذاك لعمر الله عمل مضلل"1
الصحابة الكرام بنوا المسجد حساً ومعنى ممتثلين قول ربهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}2،كان المسجد يعني لهم كل شيء، وسنقف بعد قليل لنعيش زوايا من حياة الصحابة - رضي الله عنهم - هل اكتفوا ببنائه بالحجارة كما يفعل بعضنا - والله المستعان -؟
لا طبعاً.
إذن فماذا كانوا يفعلون؟
المسجد مكان أساسيٌ للتعليم:
كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتخذون بيوت الله - تعالى- منهلاً للعلم، ومنبعاً للثقافة، فقد كان لجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - حلقة في المسجد (يعني النبوي) يؤخذ عنه العلم3، ومرَّ أبو هريرة - رضي الله عنه - ذات يوم بسوق المدينة فوقف عليها وقال: "يا أهل السوق ما أعجزكم!! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث النبي - عليه السلام - يقسم وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: فـي المسجد!! فخرجوا سراعاً، ووقـف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا، فقال لهم: ما بكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يقسم؛ فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى، رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم -4.
المسجد ملتقى الأدباء والشعراء:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " أن عمر - رضي الله عنه - مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟))،قال: اللهم نعم"5
المسجد يستقبل المسافر قبل أن يصل إلى أهله:
أخرج الطبراني عن مسلم بن بجرة أخي الحارث بن الخزرج - وكان شيخاً كبيراً قد حدث نفسه - قال: "إن كان ليدخل المدينة فيقضي حاجته بالسوق، ثم يرجع إلى أهله، فلا يضع رداءه - إذا رجع إلى المدينة - حتى يركع ركعتين، ثم يقول: إن رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لنا: ((من هبط منكم فلا يرجع إلى أهله حتى يركع ركعتين في هذا المسجد))6، ولا غرابة في ذلك فهذا حال المشتاقين، وطبيعة المحبين.
المسجد مفر من الهموم والغموم والمشاكل الأسرية:
فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له "أبو أمامة" فقال: ((يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة))، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته؛ أذهب الله - عز وجل - همك، وقضى عنك دينك))، قال: قلت بلى يا رسول الله، قال: ((قل - إذا أصبحت وإذا أمسيت -: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))، قال: ففعلت ذلك؛ فأذهب الله - عز وجل - همي، وقضى عني ديني"7.
وأما بالنسبة للمشاكل الأسرية فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال: ((أين ابن عمك؟))، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان: ((انظر أين هو؟)) فجاء فقال: يا رسول الله هو ذا في المسجد راقد (في فيء الجدار)، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه، وفي رواية (عن ظهره)، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحه عنه ويقول: ((قم أبا تراب، قم أبا تراب))8.
المسجد عيادة طبية:
"كُعيبة بالتصغير بنت سعيد الأسلمية قال عنها ابن سعد - رحمه الله تعالى -: هي التي كانت تكون في المسجد، لها خيمة تداوي المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ - رضي الله عنه - حين رمى عندها تداوي جرحه حتى مات"9.
المسجد مفر إلى الله - عز وجل - ومأوى للتائبين
ويتجلى ذلك في قصة أبي لُبابة - رضي الله عنه - مع بني قريظة؛ والقصة معروفة - نأخذ الشاهد - وهو قوله: "فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله"، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني - هذا - حتى يتوب الله علي مما صنعت ... إلخ"10.
وليس هذا هو كل شيء، لكن أحببنا أن نلفت الأنظار إلى الصحابة الأخيار، وكيف كانت علاقتهم بالمسجد، وماذا كان يعني لهم؟.
اللهم ارض عن الصحابة الكرام، وارزقنا اتباعهم، والسير على خطاهم، واحشرنا جميعاً في زمرة نبيك - صلى الله عليه وسلم -.---------------------------------------------
1 سبل الهدى والرشاد(3/336).
2 (سورة التوبة:18).
3 الإصابة في معرفة الصحابة(1/ 143).
4 رواه الطبراني في الأوسط(1429)، قال الألباني : حسن موقوف، صحيح الترغيب والترهيب(83).
5 رواه مسلم برقم (2485).
6 المعجم الكبير (1055).
7 أبو داود برقم (1555)، ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود(333).
8 أخرجه البخاري برقم (430 )، ومسلم برقم ( 2409).
9 الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 94).
10 تاريخ الطبري (2/100).