إسلام ثلاثة.. من عمالقة الصحابة
الكاتب: د. راغب السرجاني
حدث عظيم! كان هناك حدث عظيم في شهر صفر سنة 8هـ، وهو من أعظم ثمار الحديبية، ومن أعظم ثمار عمرة القضاء، وهذا الحدث هو لحظة فارقة حقيقة ليس في تاريخ مكة المكرمة، وليس في تاريخ الجزيرة العربية، وليس في تاريخ العالم نفسه في ذلك الوقت، ولكن في تاريخ الإنسانية كلها، وإلى يوم القيامة عندما نتدبر هذا الحدث وآثاره؛ وهذا الحدث العظيم هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضوان الله عليهم أجمعين، فهم ثلاثة من عمالقة مكة، بل من عمالقة الأرض قاطبةً، وهؤلاء الثلاثة لم يسلموا فقط في شهر صفر سنة 8هـ، ولكن أسلموا في يوم واحد، إنه نصر كبير للإسلام والمسلمين، وقد عبر عنه الرسولبقوله: "رَمَتْكُمْ مَكَّةُ بِأَفْلاَذِ كَبِدِهَا"[1].
وهؤلاء الثلاثة أفلاذ كبد مكة، إن إسلامهم كان نقطة محورية في السيرة النبوية، ونقطة محورية في تاريخ الأرض كلها. وانظرْ إلى الآثار التي حدثت في الأرض على يدي خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.. إنه شيء مهول؛ فقد فتحت العراق، وفتحت فارس، وفتحت بلاد ما وراء النهر، وفتحت أرمينية، وفتحت بلاد كثيرة جدًّا في آسيا، وفتحت الشام، كل ذلك على يد البطل خالد بن الوليد t، وكذلك فتحت فلسطين، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص t.
ولنتخيل كم من المسلمين في هذه البلاد، وكم من الأعمال الصالحة، وكم من الجهاد في سبيل الله، وكم من الدعوة إلى الله، وكم من العلم، وكم من الإضافات للإنسانية، كل هؤلاء دخلوا بجهاد هذين البطلين العظيمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فهو إنجاز هائل للمسلمين في العام الثامن من الهجرة. وكان إسلام هذين البطلين من أقوى الإضافات في تاريخ الإسلام، وقد أعطاهم الرسولأهمية خاصة في أحاديثه، وفي معاملاته لدرجة أنه أعطى خالد بن الوليد t لقبًا ما أعطاه لأحد قبله ولا بعده، فقد سماه الرسولسيف الله المسلول t، وقال عن عمرو بن العاص كلمات ما قالها لأحد غيره، قال عنه: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ"[2].
إنها كلمة كبيرة في حق هذا البطل. وقال أيضًافي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الألباني: "عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ"[3].
وهذا الكلام يحمل أبلغ الرد على كل من يطعن في هذا الصحابي الجليل، الذي فتح بلادًا شتى، ولا أقول دخل مئات الآلاف في الإسلام على يديه، ولكن دخل الملايين من البشر، ليس في زمنه فقط ولكن إلى الآن، وكل المسلمين في كل بقعة في فلسطين وفي العراق وفي مصر وفي الشام، وفي غير ذلك من بلاد العالم يدينون بالفضل لهذين البطلين، فهو أمر خارج عن التخيل، وهو لحظة فارقة من أعظم لحظات التاريخ الإسلامي.
أسباب إسلام البطلين خالد وعمرو:
أسلم البطلان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بعد سنوات طويلة من الصدِّ عن دين الله، وإسلام هذين الرجلين يحتاج منا إلى وقفة وتحليل، فما الذي دفع هؤلاء إلى الإسلام؟ إنه الانبهار بقوة الإسلام، والانبهار بعظمة الرسولكقائد، فهؤلاء جميعًا من القادة العسكريين، ومن الفرسان المشهورين في بلاد العرب، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام قائد بارع وعظيم من القوَّاد لم يروا مثله قبل ذلك، وفي موقعة أُحد فشل خالد بن الوليد تمامًا في قهر الخطة التي وضعها الرسول، وفي إحباط هذه الخطة إلا بعد أن خالف الرماة أمر الرسول، ولكن الخطة كانت في تمام الإحكام، وكان خالد يرى ذلك ويعلم أنه لن يهزم الرسول، ولولا مخالفة الرماة ما استطاع خالد أن يغزو المسلمين من خلفهم، ولهرب مع من يهرب.
وعادت قريش في الأحزاب، ولم تدخل المدينة المنورة، وعاد خالد من الحديبية ولم يتمكن من قتال المسلمين، يواجه خالد الفشل أمام الرسول، وهو منبهر تمام الانبهار بقوة وبأس وتخطيط الرسول، وفوق ذلك هو منبهر بأخلاق الرسولكداعية وإنسان يعيش في وسط الناس بمبادئ وقيم معينة ما يخالفها، والعسكريون عادةً يدوسون على كل القيم والأخلاق، ويحققون الأهداف بصرف النظر عن الوسائل، ولكن خالد بن الوليد t شَاهَدَ في الرسولرجلًا عسكريًّا حكيمًا، وقائدًا قويًّا، ومع ذلك يتحلى بكامل الأخلاق الحميدة، وبلغ فيها الذروة، والرسولطوال حياته الصادق الأمين، وما استطاع أبو سفيان -مع شدة عداوته له- أن يقول في حقه كلمة سلبية واحدة أمام هرقل زعيم الروم، هذا قائد أخلاقي من الدرجة الأولى؛ فخالد بن الوليد منبهر تمام الانبهار، وكذلك عمرو بن العاص مذهول بشخصية الرسول، وهذا الذي دفعهم بعد ذلك للإسلام، ولكن القوة الإسلامية التي ظهرت في صلح الحديبية، والتي ظهرت في عمرة القضاء، كان لها أبلغ الأثر في إسراع خطوات إسلام القائدين العظيمين خالد وعمرو رضي الله عنهما.
قصة إسلام خالد بن الوليد:
وقف خالد بن الوليد t في جمعٍ للمشركين بعد خروج الرسولمن مكة في عمرة القضاء في أواخر العام السابع من الهجرة، وقال للجميع كلامًا عجيبًا، قال لهم: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين[4].
في هذا الموقف انبهر خالد بقوة وعزة الإسلام، فقام في هذا المقام وقال هذه الكلمات، وهو من أعظم زعماء مكة مطلقًا، ودائمًا كان خالد قائد الفرسان في كل معارك قريش، ولعل هذا هو الذي أخَّر إسلامه إلى هذا الوقت، فقد أسلم خالد وكان عمره سبعة وأربعين عامًا، وفي كل هذه الفترة كان زعيمًا وقائدًا في قريش. ولا شك أنه كان يخشى على مكانته إذا انضم إلى الإسلام، ولا شك أنه كان له مكانة مرموقة في الجيش المكي، وله مكانة مرموقة في العرب، وخاف على هذه المكانة أن تضيع، إضافةً إلى أن أباه كان الوليد بن المغيرة، وهو من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، ولكن خالد بن الوليد تغير وانبهر بقوة الإسلام، وانبهر بالرسول، فقال خالد هذه الكلمات التي تعبر عن رغبته في دخول الإسلام: فحقٌّ لكل ذي لبٍّ أن يتبعه[5].
إنها كلمة خطيرة على قريش، وسمع أبو سفيان كلام خالد بن الوليد فناداه بسرعة، حتى يتأكد من قول خالد لهذا الكلام، فأكد له خالد صحة ما قال، وكرر نفس الكلمات أمام أبي سفيان، واندفع أبو سفيان إلى خالد بن الوليد، وكاد يضربه، وحجز بينهما عكرمة بن أبي جهل، وكان عكرمة ساعتها لا يزال مشركًا، وعكرمة من أكثر الرجال قربًا إلى قلب خالد بن الوليد، وبينهما صداقة قديمة، فحجز عكرمة بين أبي سفيان وخالد، وقال كلمات عجيبة هو الآخر لأبي سفيان:
"مهلًا يا أبا سفيان، فوالله خفتُ للذي خفتَ أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه". أي أنني خفتُ أن أكون على دين محمد بعد هذا الذي رأيت في عمرة القضاء، ثم قال له: "أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه؟! وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألاّ يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم"[6].
فالجميع منبهر بالرسولوبجيش المؤمنين، يقول تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
إن الجميع يعلم أن الإسلام هو الدين الحق، وأن الرسول حق، ولكن بعضهم كسر كبرياءه ودخل في دين الرسول، وبعضهم ظل في كبريائه ومات على كفره. والحمد لله أن كل من اشترك في هذا الحوار قد أسلموا بعد ذلك، ولكن تأخر إسلام بعضهم عن بعض. فهذا كان موقف خالد بن الوليد t، ولا ننسى أن خالد بن الوليد t قال في الحديبية كلمة عظيمة في حق المسلمين: "إن القوم ممنوعون".
عندما نزلت صلاة الخوف كما فسرنا قبل ذلك "إن القوم ممنوعون" أي أن اللهيحيطهم برعايته وعنايته، وكان لهذا الموقف أثر كبير في قلب خالد بن الوليد، وشيء آخر كان له تأثير في خالد ونقف معه وقفة مهمة، وهو أن خالد بن الوليد t عندما رأى جيش المسلمين وهو يدخل مكة المكرمة للعمرة في العام السابع لم يستطع أن يتحمل هذا المنظر في بدايته وخرج من مكة وتركها.
رسالة الوليد بن الوليد لأخيه خالد:
دخل الوليد بن الوليد بن المغيرة -وهو من الصحابة الكرام- مع النبيإلى مكة للعمرة، فلما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد حتى يدعوه للإسلام فلم يجده، فكتب له كتابًا، وقال له فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام يجهله أحد؟! وقد سألني رسول اللهعنك وقال: (أَيْنَ خَالِدٌ؟) فقلت: يأتي الله به. فقال: "مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلاَمَ؟! وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ"، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة"[7].
قال خالد: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول اللهعني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت: إن هذه لرؤيا. فلما أن قدمت المدينة قلت: لأذكرنَّها لأبي بكر. فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك.
ولننظر إلى الحكمة النبوية، فالرسوليقول لخالد بن الوليد: لو أضفت قوتك لقوة المسلمين، فلن تكون تابعًا، ولكن سوف نقدِّمك على غيرك، فأنت قائد عظيم، وأنت فارس عظيم، وأنت مجاهد كبير، فأضف هذه القوة إلى قوة الإسلام، وبذلك يكون لك فضل السبق على المسلمين، وإن سبقوك قبل ذلك في دخول الإسلام. هذه الكلمات وصلت إلى قلب خالد بن الوليد t، وهو تأليف عظيم من الرسوللقلب خالد بن الوليد، فلن تضيع منك القيادة والسيادة، ولن يضيع منك أي شيء، وهذه هي الحكمة الحقيقية، ثم يقول الوليد بن الوليد t: "فاستدرك يا أخي ما قد فاتك".
لقد فاتتك مواطن صالحة وغزوات كنا نحتاجك فيها، وهذا تحفيز لخالد بن الوليد ألاّ يضيِّع وقتًا آخر. وقد وقعت هذه الكلمات في قلب خالد بن الوليد، قال: "فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة رسول الله". ثم قال خالد t: "وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا"[8].
وفهم تفسير الرؤيا أنها الخروج من الشرك إلى الإيمان.
خالد بن الوليد يهاجر إلى المدينة:
أجمع خالد بن الوليد للخروج إلى الرسولمهاجرًا من مكة إلى المدينة المنورة، يقول: قلت: "من أصاحب إلى الرسول؟" فهو لا يريد أن يذهب وحده، يقول خالد t:
"فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أمَا ترى ما نحن فيه، إنما نحن أكلة رأس[9] والأرض تتناقص من حول قريش، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه".
فأَبَى صفوان أشد الإباء، وقال: "لو لم يبقَ غيري من قريش لما اتبعته".
لأن صفوان بن أمية موتور؛ فقد قُتل أبوه أمية بن خلف في بدر، ونفس الموقف لخالد بن الوليد فقد قتل أبوه الوليد بن المغيرة في بدر، ولكن اللهيهدي من يشاء، وقد أسلم صفوان بن أمية بعد فتح مكة. فقابل خالد بن الوليد عكرمة بن أبي جهل، فعرض عليه نفس الكلام، فقال له مثل ما قال صفوان، ورفض تمام الرفض، فقال خالد نفس الكلام: هذا رجل موتور، قُتل أبوه أبو جهل. ولكن خالد لم ييْئَس، وذهب إلى عثمان بن طلحة t، وكان في هذا الوقت مشركًا، فقال له نحوًا مما قال لصاحبيه، فأسرع عثمان بالإجابة.
أي قَبِل فكرة الإسلام، واتفق الاثنان على الخروج للمدينة المنورة وتواعدا، وبالفعل خرجا إلى المدينة المنورة لإعلان إسلامهما بين يدي الرسول.
قصة إسلام عمرو بن العاص:
ظل عمرو بن العاص فترة طويلة من حياته رافضًا لفكرة الإسلام، وعندما أسلم عمرو بن العاص كان عمره سبعة وخمسين عامًا، وتخيل فترة طويلة من حياته وهو يحارب الإسلام والمسلمين، فقد ظل أكثر من عشرين سنة وهو رافض لفكرة الإسلام، لكن ما الذي غيَّر فكر عمرو بن العاص؟ كان عند عمرو بن العاص موانع كثيرة، فقد كان له مكانة كبيرة في قريش مثل خالد بن الوليد، وكان أبوه العاص بن وائل من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، فهو من بيت يكره الإسلام والمسلمين، فهذا ما جعله يتأخر هذه الفترة الطويلة من الزمن، ولكن بداية تغيير فكر عمرو بن العاص كان مع انصراف الأحزاب، يقول عمرو بن العاص: "ولما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون رأيي، فقلت لهم: والله إني أرى أمر محمدٍ يعلو الأمور علوًّا منكرًا".
وبدأ عمرو بن العاص -وهو من أحكم العرب وأدهى العرب- يرقب بعينه ما قال الرسول: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا"[10].
فإن الأيام القادمة للمسلمين، وسوف يعلو نجم الإسلام في الجزيرة العربية كلها.
عمرو بن العاص يسلم على يد النجاشي:
رأى عمرو أن يلحق بالنجاشي ويترك مكة المكرمة بكل ما فيها ويذهب إلى الحبشة، وكان النجاشي صديقًا حميمًا لعمرو بن العاص t، فيقول: "رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمدٌ على قومنا كنا عند النجاشي، فإنَّا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد". ولننظر إلى مدى الكراهية للرسول.
"وإن ظهر قومنا فنحن مَن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خيرٌ". أي لو انتصرت قريش على المسلمين سيعود بعد ذلك عمرو بن العاص وله من المكانة المحفوظة ما له في قريش. فهذا موقف سلبي من عمرو بن العاص في ذلك الوقت، وسبحان الذي أعزه بعد ذلك بالإسلام! ووافقه أصحابه على هذا الرأي، وقال لهم: "فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان أحب ما يُهدى إليه من أرضنا الأَدَمُ".
ولذلك جمعوا له كمية كبيرة من الجلود، وسافروا إلى النجاشي، ثم يقول عمرو بن العاص: فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية، وقد أرسله الرسول للنجاشي ليأتي بجعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد صلح الحديبية، فساعتها عندما رأى عمرو بن العاص عمرو بن أمية عند النجاشي، فكر أن يطلب قتل عمرو بن أمية، فإن قتله أصبحت له يد كبيرة على قريش، فدخل على النجاشي، فقال له:
أيها الملك، إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله؛ فإنه قد أصاب من أشرافنا. فغضب النجاشي غضبًا شديدًا؛ يقول عمرو بن العاص:
فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فَرَقًا منه. فقال له:
أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك.
فقال النجاشي -وكان قد أسلم وأخفى إسلامه، ولكنه وجد فرصة أن يدعو عمرو بن العاص للدخول في الإسلام؛ لأن النجاشي لم يعلن إسلامه في الحبشة حتى لا يقتلعه قومه من كرسيِّه، ولكن عمرو بن العاص صاحبه وصديقه وبينهما عَلاقة قديمة، فأراد أن يصل إليه بالخير الذي وصل إليه قبل ذلك- فقال له:
أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله.
فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، أكذلك هو؟ أي هو رسول من رب العالمين.
فقال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
فقذف الله الإسلام في قلب عمرو، ولكن ذلك كان نتيجة تراكمات كثيرة، وهو منبهر بالرسول، ومنبهر بحياة الرسول، وفجأة اكتشف الحقَّ أمام عينيه.
فقال للنجاشي: أتبايعني له على الإسلام؟
قال النجاشي: نعم.
يقول عمرو: فبسط يده، فبايعته على الإسلام[11].
فأسلم عمرو بن العاص على يد النجاشي رحمه الله. فالمكان الذي هرب فيه من الإسلام هو المكان الذي أسلم فيه، أسلم على يد النجاشي، وصدق الله تعالى إذ يقول في كتابه الكريم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
عمرو بن العاص يتجه إلى الجزيرة العربية:
أسلم عمرو بن العاص أمام النجاشي، وكتم إسلامه عن أصحابه وتركهم، وعاد إلى الجزيرة العربية، وهو ينوي الذهاب إلى رسول اللهلإعلان الإسلام بين يديه، فوصل إلى مكة المكرمة، ومكث فيها قليلًا، ثم خرج بعد ذلك في اتجاه المدينة المنورة، وهو خارج قابل خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فسأل خالد بن الوليد: أين يا أبا سليمان؟
فقال خالد بن الوليد -في منتهى الصراحة والوضوح-: والله لقد استقام المنسم (أي وضح الطريق)، وإن الرجل (أي الرسول) لنبيٌّ، أذهبُ والله فأُسلم.
فقال عمرو بن العاص: والله ما جئتُ إلا لأسلم.
فرسان مكة الثلاثة أمام الرسول:
وتحرك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة من مكة إلى المدينة المنورة، حتى وصلوا إلى منطقة الحَرَّة، وهناك عند منطقة الحرة أناخوا ركابهم، وبدءوا يستعدون للقدوم على الرسول. يقول خالد: فلبستُ من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله. وهو ذاهب للرسوللقيه أخوه الوليد بن الوليد t، فقال: أسرع؛ فإن رسول اللهقد أُخبر بك، فسُرَّ بقدومك وهو ينتظركم.
يقول خالد: فأسرعت المشي، فطلعت عليه، فما زال يتبسَّم إليَّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد عليَّ السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، فَقَدْ كُنْتَ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَلاَّ يُسْلِمَكَ إِلاَّ لِلْخَيْرِ".
قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا للحق، فادعُ الله أن يغفرها لي.
فقال رسول الله: "الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ".
قلت: يا رسول الله، على ذلك.
فقال: "اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدٍ كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِكَ"[12].
ثم تقدم عمرو بن العاص t، فقال لرسول الله: أبسط يمينك فأبايعك.
فبسط يمينه، فقبض عمرو يده، فقال الرسول: "مَا لَكَ يَا عَمْرُو، لِمَاذَا تَقْبِضُ يَدَكَ؟"
قال عمرو: أردتُ أن أشترط.
فقال الرسول: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟"
قلت: أن يُغفر لي.
فقال الرسول: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟"[13].
وأسلم عمرو بن العاص t، ثم تقدم عثمان بن طلحة وأسلم هو الآخر، وكان إسلام عثمان بن طلحة إضافةً سياسية في منتهى القوة للدولة الإسلامية.
وهؤلاء عمالقة مكة: خالد بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن العاص بن وائل، وعثمان بن طلحة العبدري y، ثلاثة من أثقل الفرسان في تاريخ مكة جميعًا.
كان هذا هو الحادث الهائل الذي حدث في صفر سنة 8هـ، وهو من أعظم آثار الحديبية وعمرة القضاء مطلقًا، وآثار هذا الحدث ما زلنا نجنيها حتى وقتنا هذا، وسنظل نجني من هذه الآثار إلى يوم القيامة.
إنه حدث هائل، ولن ندرك عظمته إلا بدراسة الفتوحات الإسلامية، ورؤية الآثار التي تركها هؤلاء العمالقة y للإسلام والمسلمين. --------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو الربيع الأندلسي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، تحقيق د. محمد كمال الدين، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ، 2 127.
[2] رواه الترمذي (3844)، وأحمد (17449)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (973).
[3] رواه الترمذي (3845)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4095).
[4] الصلابي: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م، 2 421.
[5] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[6] الصلابي: السيرة النبوية 2 421.
[7] ابن كثير: السيرة النبوية 3 451.
[8] المصدر السابق 3 451.
[9] يعني مجموعة قليلة يكفيها رأس من الإبل للأكل، يعني مجموعة قليلة من الناس.
[10] رواه البخاري (3884)، وأحمد (18334).
[11] الصلابي: السيرة النبوية 2 422.
[12] ابن كثير: السيرة النبوية 3 453.
[13] مسلم: كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (121)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.