صناعة الساعات.. عند المسلمين
الكاتب: جميل حسين الأحمد
الإسطرلاب اهتم المسلمون بالساعات لأجل تحديد أوقات الصلاة والأعمال الفلكية وغيرها منذ بداية الدولة الإسلامية، فقد ذكر الجاحظ أن حكام المسلمين وعلماءهم كانوا يستعملون بالنهار الإسطرلاب وبالليل البنكامات (مصطلح فارسي معناه الساعات) وهي الساعة المائية الدقاقة.
وكان هناك نوعان منها: نوع كبير الحجم وتملأ معداته غرفة كبيرة، والآخر صغير قابل للنقل ويُسمى صندوق الساعات، ومثال ذلك الساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا (742-814م) وهي ساعة مائية دقاقة صنعت من الجلد والنحاس الأصفر المنقوش، وكانت تدل على الوقت بفرسان من المعدن يفتحون كل ساعة بابًا يسقط منه العدد المطلوب من الكرات على صنجة، ثم ينسحبون ويغلقون الباب.
وقد أثارت هذه الساعة دهشة بلاط شارلمان، وظنوا أن بها عفاريت يقومون بتحريك أجزائها وجعلها تدق في الوقت المناسب؛ مما يدل على أن العرب كانوا على جانبٍ كبير من المهارة الآلية الفنية، وأن الأوربيين كانوا على جانبٍ كبير من الجهل والتخلف في ذلك الوقت.
وقد وصف الغزالي هذه الساعات بقوله: "فيه آلة على شكل أسطوانة تحوي قدرًا معلومًا من الماء وآلة أخرى مجوفة موضوعة في هذه الأسطوانة فوق الماء, وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوف وطرفه الآخر في أسفل ظرف صغير موضوع فوق الآلة المجوفة وفيه كرة وتحته طاس، بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسمع طنينها، ثم ثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقبًا بقدر معلوم ينـزل الماء فيه قليلًا قليلًا.
فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء فامتد الخيط المشدود بها فحرك الظرف الذي فيه الكرة تحريكًا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس، فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس وتطنّ، وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة، وإنما يتقدر الفصل بين الوقتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه، وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء".
شاع استخدام الساعات المائية الدقاقة في كل أنحاء الدولة الإسلامية، وكانت من عجائب الدنيا في ذلك الوقت، وكانت مقصد الزوار والرحالة، وقد وصف ابن جبير ساعة باب جيرون وهو الباب الثاني للمسجد الأموي بدمشق والذي سمي (باب الساعات)، فقال:
"وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة، ولها هيئة طارق كبير مستدير فيه طيقان (أقواس) صُفْر (نحاس)، فقد فتحت أبوابًا صغارًا على عدد ساعات النهار ودُبِّرت تدبيرًا هندسيًّا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان (كرتان) من صفر (نحاس) من فَمَيْ بازِيَيْنِ مُصَوَّرَيْنِ من صُفْر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما: إحداهما تحت أول باب من تلك الأبواب.
والثانية تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين (الكرتين) فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين في الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرًا..
وعند وقوع البندقتين في الطاستين يُسمع لها دويٌّ وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر، لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرّمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مُدَبّر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمَّ الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة.
ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها. وقد وُكِّل بها في الغرفة متفقِّد لحالها دُرِبٌ بشأنها وانتقالها، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها، وهي التي يسميها الناس المِنْجَانة (أي الساعة)".
الجدير بالذكر أن هذه الساعة من صنع رضوان بن محمد الساعاتي المتوفى سنة (617هـ)، وقد تعرضت لحريق سنة (618هـ)، وقد جددت بعد ذلك. وحينما زار دمشق الرحالة ابن بطوطة سنة (726هـ) وصف ساعات كانت على الباب الشرقي للجامع الأموي، وقد اختلف وصف ابن بطوطة لتلك الساعات عن الوصف الذي ذكره ابن جبير، فقال ابن بطوطة: "وعن يمين الخارج من باب جيرون وهو باب الساعات غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طيقان صغار مفتحة، لها أبواب على عدد ساعات النهار.
والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرًا والظاهر الأصفر باطنًا، ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مشي الساعات".
ومن بين العلماء العرب الذين اهتموا بدارسة الساعات والمسائل العلمية المتعلقة بعلم السوائل والآلات الميكانيكية ابن الرزاز الجزري، الذي ذاع صيته في القرن السادس الهجري، وكان معاصرًا لرضوان بن محمد الخراساني، وصنع الجزري ساعة أثبتها في أول كتابه الجامع "بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، ثم ذكر كيفية صنعها. هذا إضافةً إلى عدد كبير من الذين صنعوا ساعات في بغداد وديار بكر ومالطة ومصر وتونس والرباط وغيرها.
وقد صنع ساعة فاس السلطان أبو عنان الديني في سنة (758هـ)، وكانت هذه الساعة تسقط أوتوماتيكيًّا كل ساعة زمنية صنجة من النحاس في كأس من النحاس أيضًا، وفي نفس الوقت ينفتح الطاق الدال على الساعة الزمنية.
وما زالت بقايا هذه الساعة ماثلة في مدينة فاس في المغرب، ويقصدها السائحون من أنحاء الدنيا، ولا غرو فقد كانت من أعاجيب الزمان في عصرها، وتمثل قمة التقدم التكنولوجي في القرن الرابع عشر الميلادي.
وقد طوَّر تكنولوجيا الساعات علي بن إبراهيم المعروف بابن الشاطر (777هـ/ 1375م)، فأخرجها من دائرة الماء إلى دائرة الميكانيكا، ومن دائرة الخشب إلى دائرة المعدن، وصنع ساعة صغيرة لا تزيد عن (30 سم) بعد أن كانت تبلغ عدة أمتار، وأدخل فيها الآلات المعدنية، واستغنى عن الماء وآلاته الخشبية الكبيرة.
ونقل الفلكي والرياضي المصري علي بن عبد الرحمن يونس (399هـ/ 1009م) تكنولوجيا الساعات نقلة نوعية، وذلك باختراعه البندول (رقاص الساعة)، وكان يستعمل لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد، كما استعمل في الساعات الدقاقة وسبق العربُ بهذا الاختراع جاليليو الإيطالي (1564- 1642م) بستة قرون، وكانت لدى العرب فكرة عن قانون البندول الذي استنبطه جاليليو بعد تجارب عملية، وأثبت من خلالها أن مدة ذبذبة الرقاص (البندول) تتوقف على طول الرقاص وقيمة عجلة التثاقل، وساعد هذا القانون على توسيع مجال استعمال الرقاص.
وظل العرب يحسنِّون الساعات ويختصرون حجمها ويزيدون في دقتها، حتى جعلوها ساعة حائط لا يزيد حجمها عن نصف ذراع بعد أن كانت آلات الساعة المائية غير المتنقلة تحتاج إلى غرفة لا تقل مساحتها عن 14×14 مترًا مثل ساعة باب جيرون بالمسجد الأموي (وتُعرف أيضًا بساعة الوزير الساعاتي نسبة إلى صانعها وهو رضوان بن محمد الساعاتي الخراساني الدمشقي (ت 617هـ/ 1220م) أحد وزراء دمشق أيام الملك عيسى بن الملك العادل).
ثم أخذ الأوربيون تكنولوجيا الساعات عن العرب، وأخذوا يدخلون عليها التحسينات حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
----------------------------------------
المراجع:
- رضوان بن محمد الساعاتي: مقدمة في علم الساعات والعمل بها، تحقيق محمد أحمد دهمان، مكتبة الدراسات الإسلامية, دمشق، 1981م.
- رحلة ابن بطوطة، دار التراث، بيروت، 1968م.
- رحلة ابن جبير، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1986م.
- أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ: كتاب الحيوان، شرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الحلبي.
- د. مصطفى محمود سليمان: تاريخ العلوم والتكنولوجيا، الهيئة العامة للكتاب، 2006م.